العنف الجنسي في تونس من النٌكران إلى بداية الاعتراف

02/06/2014
البيانات الصحفية
ar en es fr

مع أن تونس من البلدان التي تٌعدُّ رائدةً في مجال حقوق النساء وذلك بالنظر إلى أهمية التشريعات المتعلقة بالمرأة، فإن مسألة العنف بصفة عامة تمثل إحدى أكبر مَواطن الضعف في الترسانة القانونية والسياسات التي تسعى إلى حماية النساء وتمكينهن من الحقوق والحريات.

ففي الوقت الذي ألغت فيه تونس تعدُّدَ الزوجات وحق الجبر وواجب الطاعة وحدّدت فيه السن الدنيا للزواج وجعلت الطلاق قضائيِاً لا غير منذ سنة 1956 أي مع إصدار مجلة الأحوال الشخصية وفي الوقت الذي أرست فيه تونس سياسة إجبارية التعليم للذكور والإناث على حدّ السواء وسياسة تحديد النسل ومكّنت النساء من حق الإجهاض والدخول في سوق الشغل، لم تٌوفر مختلف التشريعات وكذلك السياسات الحماية الضرورية للنساء من العنف بِمٌختلف أَشكَالِهِ.

وفقط في سنة 2010 أجرت تونس أوّل مَسح وطني حول العنف المسلط على النساء، ومن خلال نتائج هذا البحث الرسمي تبين أن 47 بالمائة من النساء اللاتي تتراوح أعمارهن بين 18 و64 سنة صرّحن أنهن تعرضنَ لواحد من أنواع العنف على الأقل مرة واحدة طيِلة حيَاتَهنِ مع وجود تقارب كبير في هذا المعطى البياني بين الريف والمدينة . ويمثل العنف المادي الذي تَبلغُ نسبتٌه % 31.7 أكثر أنواع العنف انتشاراً يَليِها العنف النفسي بنسبة % 28.9 ويأتي العنف الجنسي في المَرتبَة الثالثة بنسبة 15.7 %.إن هذه المعطيات والأرقام الرسمية تجعلنا نطرح السؤال التالي: ما الذي يفسر ارتفاع نسبة العنف ضد النساء في بلد يعتبر رائدا في مجال حقوق النساء؟

تأتي الإجابة عن هذا السؤال من جوانب كثيرة أولها السياسي فالسلطات التونسية التي طَاَلمَا استغلت حقوق النساء في الدعاية للنِظام والقولِ باحتِراَمِهَا لحقوق الإنسان وذلك خاصة في المنتديات والمؤتمرات الدولية، كانت دائما ترفض الاعتراف بوجود العنف المبني على عصبية الجنس في تونس. ولعلّ مٌصَادَرَة كتاب عن العنف منذ سنة 1993أعًدّتهٌ الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات وهي إحدى روابط الفدرالية في تونس أكبر دليل على حالة الإنكار الذي كانت تعيشه السلطات التونسية.

انتظرت تونس سنة 2007 ليبدأ الخطاب السياسي في استيعاب مسألة العنف بصفة عامة وبما في ذلك العنف الجنسي وإثارته بشكل صريح بعد أن كان من المَحظٌورات والمواضيع المسكوت عنها، وفي إطار الاستراتيجية الوطنية للقضاء على العنف ضد المرأة تم إجراء البحث الوطني المذكور سابقاً.

وخلال تلك السنوات لعبت المنظمات النسوية التونسية والدولية دورا حاسما في الضغط على
السلطات لِحملِها على الاعتراف بالعنف الجنسي ودعوتها لتحمل مسؤولياتها في التصدي له.
يمكن أن نفسّر أيضا نَسَب العنف المرتفعة في تونس بمحدودية الإجابات القانونية عليه، فمع أن المجلة الجزائية التونسية تعاقب العنف الزوجي بل وتعتبره أحد ظروف تشديد العقوبة la violence conjugale est une condition aggravante، ومع أن المٌشَرِع التونسي يعاقب عددا من الجرائم الجنسية ومنها الاغتصاب في الفصل 227 والتحرش الجنسي منذ سنة 2004 صلب الفصل 226 مكرر من نفس المجلة، إلا أن هذه النصوص لا تستند إلى مقاربة تشريعية شاملة للتَصَدي للعنف المَبني على النوع الاجتماعي، حيث ومن ناحية يتجاهل المٌشَرِع تعريف العنف الجنسي كما ورد في النصوص الدولية وبمختلف أشكاله وسواء ارتكب في الفضاء العام أو الفضاء الخاص، وكذلك صَمَتَ المٌشَرِع عن عدد من أنواع العنف ومنها العنف الرمزي والعنف الاقتصادي بل أنه وفي أحيان كثيرة تَبَنَىَ الصور النَمَطيِة في العلاقات بين الجنسين ليٌعِيدَ إنتاج العنف بِفعل القانون.

في هذا الإطار، يمكن أن نضرب مثل الاغتصاب الزوجي. فالمٌشرع التونسي لم يتجاهل فقط هذه الجريمة بل أجَازَهَا بالقانون والفصل 13 من مجلة الأحوال الشخصية يقتضي أنه " ليس للزوج أن يجبر زوجته على البناء –أي العلاقة الجنسية- ما لم يدفع المهر". هذا الفصل يعني أنه يكفي أن يدفع الزوج المهر كثمن للعملية الجنسية حتى يجوز له إجبار المرأة عليى ممارسة الجنس وبالتالي للزوج اغتصاب زوجته على معنى هذا الفصل.

ويمثل الفصل 13 مِثالَاً لعَجِز المُشرع عن اِستعمال تعريف شامل للعنف بمختلف أشكال وأطر الممارسة وبذلك يكون القانون التونسي في هذا الباب مٌتَماشياً مع العقليات السائدة بمرجعياتها الثقافية والدينية الخاصة. ولكن الفصل 13 ليس فصلا يتيماً للَأَسَف، حيث وخارج إطار الزواج، يمكن أن نعطي مثالاً آخر لدور القانون في إعادة إنتاج العنف الجنسي وهو مثال الفصل 227 من المجلة الجزائية والذي يعتبر انه في صورة مُوَاقَعةِ قاَصرٍ بِرِضَاهَا تسقط التَتَبٌعات القَضَائيِة ضد الفاعل إذا تزوج بالضحية. وتعتبر المنظمات الحقوقية أن هذا الفصل يُراد به مٌكَافَأَة المغتصب من خلال تَزويِجه بالضحية مما يسمح باغتصابها المستمر في إطار الزوجية فقط لتمكينه من الإفلات من العقاب.

من هنا نفهم أن عوائق القضاء على العنف والعنف الجنسي بالتحديد كثيرة في تونس منها السياسي ومنها القانوني مثلما سبق ذكره بالإضافة إلى العوامل الثقافية والاجتماعية، فهل شهد هذا الوضع تطورا بعد انتفاضة الشعب التونسي في سنة 2011؟
يصعب الحسم بتزايُدِ أو تراجع العنف المسلط على النساء منذ 2011، ولكن من الشائع ارتفاع العنف ضد النساء في فترات الأزمات وربما تونس لم تشد عن تلك القَاعدة.

فبالإضافة إلى العنف عبر وسائل التواصل الاجتماعي الذي مُورِسَّ على المترشحات في الانتخابات الأخيرة لعضوية المجلس الوطني التأسيسي والتهجم على أعرَاضهن وسٌمعَتهن، وبالإضافة إلى العنف الجسدي والمادي الذي ارتكبته جماعات إسلامية ضد ناشطات سِياسيات وناشطات بالمجتمع المدني في الاجتماعات العامة والمظاهرات (مي الجريبي في 2011 وفي في 2012)، عرفت تونس حالات من العنف الجنسي التي أثارت ردود فعل قوية من قبل رأي العام الداخلي والخارجي وذلك لخطورة تلك الحالات ونوعيتها.

وفي هذا الإطار نعطي مثال ملف قضية الفتاة "مريم". ومريم هي فتاة تبلغ 29 عاما تعرّضت للاغتصاب بالتداول من قبل أعوان الأمن وفي سيارة الشرطة عندما كانت برفقة صديقها في إحدى أحواز العاصمة.

وتَتَمثل وقائع هذه القضية في أنه في شهر سبتمبر 2012 وجدَ أعوان الأمن الفتاة برفقة صديقها ليلا في سيارتها فعَمدوا إلى تهديدهما برفع قضية ضدهما إذا لم يدفعا رشوة وتكفل أحد الأعوان بإبعاد صديقها باتجاه مٌوزَع بنكي لتسلم المال ، في الأثناء استجلب العَونان الآخران الفتاة غصبا إلى السيارة الإدارية
وتم اغتصابها.

ولأن مريم تحلّت بالشجاعة لمواجهة ومقاضاة مٌغتصِبيهِا واتجهت كذلك إلى الإعلام والجمعيات الحقوقية والنسوية لمساندتها فقد كانت ردّةُ فعل السلطات التونسية بأن صَرَّحَ الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية التي يقودها حزب النهضة الإسلامي في ذلك الوقت وأعلن أن الفتاة عرضت نفسها برضاها على أعوان الشرطة خوفا من تَتَبٌعِهَا عَدلِياً من اجل ممارستها الجنس مع صديقها.

بعد هذا التصريح مباشرة وجّهَ المُدَعي العام تهمة الاعتداء على أخلاق الحميدة للضحية مريم.
بهذه الطريقة تم تحويل الضحية إلى مُذِنبة ومسؤولة عن الاغتصاب وهو ما دعا إلى تحرك قوي للمنظمات الحقوقية التونسية والدولية وبالإضافة إلى مرافقة الفتاة نفسياً وصحياً فقد شكلت المنظمات ومنها الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان هيئة دفاع لتمثيل مريم أمام القضاء. كما لقيت القضية مساندة كبيرة من الإعلام ونشطاء مواقَع التواصل الاجتماعي.

في 31 مارس 2014 صدر الحكم الابتدائي في القضية وذلك بالسجن مدة سبع سنوات للمغتصبين. ورغم استبشار الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان بحكم الإدانة كخطوة نحو الحد من الإفلات من العقاب فقد اعتبرت أن العقوبة غير متناسبة مع ظروف الجريمة التي ارتكبت من قِبَل موظفين مسؤولين عن أمن المواطنين وهي ظروف تشديد للعقوبة في القانون التونسي.

إن مثال قضية مريم قد تحول إلى مثال نَمٌوذَجي ورمزي، فقد عكس الملف فلسفة المؤسسات في التعامل مع قضايا العنف الجنسي الذي يمارس على المرأة والتي سارعت إلى تبريره بشتى الوسائل كما أنه فتح أعين الرأي العام حول نقائص التشريعات التونسية في مجال التصدي له.

فهذا الملف حرّك الرأي العام وجعل المنظمات الحقوقية تطالب بمٌرَاجَعَة كافةَ القوانين المتعلقة بالعنف والعنف الجنسي في تونس. ومع أن هَذه المَطَالب قديمة بالنسبة للمجتمع المدني التونسي، إلا أن ما أتاحَتُهٌ الثورة من فسحة للحريات قد مكّن من تكثيف وتَقويَة النضالات لتحقيقها.

وبالفعل هناك مكاسب تحققت اليوم للنساء التونسيات على الأقل في المستوى التشريعي وذلك:

أولا بإصدار الدستور الجديد في 27 جانفي 2014 والذي نص في فصله 46 على أن "الدولة تتخذ كافة الإجراءات الكَفيِلة بالقضاء على العنف ضد المرأة" وهو فصل يعدّ مَكسَباً وتَتَويِجاً لعمل الحقوقيات والحقوقيين في تونس فهو اعتراف دٌستوري بالعنف الخصوصي المسلط على المرأة وهو إلزام للدولة بحماية النساء منه.

ثانيا برفع تونس تحفظاتها الخاصة التي وضَعَتها على اتفاقية CEDAW في سنة 1985 وذلك يوم 23 أفريل 2014 وهو تحقيق لمطلب حقوقي ونسوي قديم .

إن هذان المَكسبان التاريخيان بالنسبة للتونسيات هٌمَا نتيجة لحملات مناصرة ومدافعة قوية خاضتها المنظمات التونسية وساندتها في ذلك المنظمات الدولية على مدى سِنيِن. ونظرا لرفع منظمات المجتمع المدني التونسي هذه المطالب فقد اتهمت الحركة الحقوقية بالقُصْوَوِيَّة والبعيدة عن الواقع التونسي والثقافة المجتمعية، غير أن استناد منظمات المجتمع المدني إلى المنَظومة الدولية لحقوق الإنسان في كونيتها واعتِباَرِها أن حقوق النساء جزءً لا يتجزَّأُ من حقوق الإنسان وبالتالي وضوح رؤيتها في ذلك دون تردّد أو مٌسَاوَمة جَعَلهَا أقوى في فرض مَطَالبها والتعبئة المجتمعية من أجلها.

ويمكن القول بأن وضٌوٌح الرؤيا والتشبيك والعمل مع الشٌرَكَاء على المستوى الإقليمي والدولي هو من أهم الممارسات الجَيِدَة التي أصَرَّت عليها المنظمات في تونس، كما أن استراتيجيتها العاملة على المطالبة بالأقصى والتفاوض الدائم مَكَنَها من تحقيق جملة من المكاسب.

ففي خصوص الدستور، نذكر مثلا أن الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات وكذلك الرباطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وهي إحدى أقدم أعضاء الفدرالية في تونس قد قدمت مشاريع دساتير اقترَحتها على المجلس التأسيسي التونسي وكان المشروعان مٌتفَقَان في الباب المتعلق بالمساواة وحقوق النساء وقد عملت الجمعيات على التعبئة المٌجتمعية والتوعية بمحتوى مقترحاتِها للدستور في الجهات وفي الإعلام ونجحت في تجنيد الرأي العام لمساندتها.

من ناحية أخرى واكبت منظمات المجتمع المدني مختلف النقاشات داخل المجلس ورافقت عملية كِتابة الدستور لَحظة بلحظة على مٌدة عامين وتصدّت في كل مرة لمحاولات المسّ من حقوق النساء من ذلك أن حزب حركة النهضة قدّم مشروعا أولا للدستور (أوت 2012) حاول فيه تمرير مفهوم التكامل في العلاقات بين الجنسين عوضا عن المساواة وهنا وفي الحين نبهت المنظمات إلى خطورة المفهوم على المرأة التونسية وعَبَأت الشارع في المظاهرات ضده إلى أن وقع الترَاجع عنه كما طالبت بإقرار مَبدَأ التَنَاصف وكان ذلك في الدستور الجديد في الفصل 46.

ما نذكره الآن إنما يمثل دليلا على أهمية المجتمع المدني في اليَقَظَة المٌواَطَنَية والديمقراطية والتفاعل في الحين مع كل المحاولات للنيل من حقوق النساء فالمجتمع المدني التونسي هو قوة اقتِراح وضغط كما أنه قوة رصد وتوثيق لانتهاكات حقوق النساء وفَضِحِهَا الأمر الذي جعل الباحثين يعتبرون أن تونس هي "هِبَةٌ المجتمع المدني".

يبقى اليوم أن الدستور خطوة هامة بحاجة إلى خطوات أهم وتتمثل في مٌلاَئمة كافة التشريعات التونسية مع الدستور وتَنقيِتٌها من الفصول التمييزية وهو ما تعمل عليه الفدرالية الدولية مع أعضائها وستقوم في هذا الغرض ببرنامج متكامل لمٌرَاجعة كافة التشريعات واقتراح نصوص تحترم المعايير الدولية لحقوق الإنسان للنساء، كما تساند الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان برنامجا لإعداد قانون إطاري شامل حول العنف المسلط على النساء يعتمد التعريفات المٌتَفق عليها دوليا للعنف ويحقق وقاية النساء بشكل قبلي من العنف كما يضمن معاقبة المُعتَدين ورَدعِهم ويَكفَلٌ الإحاطة بالناجيات من العنف.

إن هذه البرامج وغيرها كالتوعية المجتمعية والتربية على المواطنة والتثقيف على حقوق الإنسان تعاضد بقية مجهودات المنظمات والفاعلين في تونس من أجل أن يكون الانتقال الديمقراطي مبنيا على احترام حقوق النساء وتطويرها وهو الفيصَل الحقيقي في مَدىَ نجاح التجربة التونسية.

أقرأ المزيد